فصل: الضرب الرابع: أن يستوفي معاني الغرض المقصود من كتاب أو خطبة أو قصيدة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع السادس عشر: في الإطناب:

هذا النوع من الكلام أنعمت نظري فيه، وفي التكرير، وفي التطويل، فملكتني حيرة الشبه بينها طويلا، وكنت في ذلك كعمر بن الخطاب رضي الله عنه في الكلالة حيث قال: قد أعياني أمر الكلالة، وكنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها كثيراً حتى ضرب في صدري، وقال: «ألا يكفيك آية الصيف».
وبعد أن أنعمت نظري في هذا النوع الذي هو الإطناب وجدت ضربا من ضروب التأكيد التي يؤتى بها في الكلام قصداً للمبالغة، ألا ترى أنه ضرب مفرد من بينها برأسه لا يشاركه فيه غيره، لأن من التأكيد ما يتعلق بالتقديم والتأخير، كتقديم المفعول، وبالاعتراض، كالاعتراض بين القسم وجوابه وبين المعطوف والمعطوف عليه، وأشباه ذلك وسيأتي الكلام عليه في بابه، وهذا الضرب الذي هو الإطناب ليس كذلك.
ورأيت علماء البيان قد اختلفوا فيه، فمنهم من ألحقه بالتطويل الذي هو ضد الإيجاز، وهو عنده قسم غيره، فأخطأ من حيث لا يدري، كأبي هلال العسكري، والغانمي، حتى إنه قال: إن كتب الفتوح وما جرى مجراها مما يقرأ على عوام الناس ينبغي أن تكون مطولة مطنبا فيها، وهذا القول فاسد، لأنه إن عنى بذلك أنها تكون ذات معان متعددة قد استقصى فيها شرح تلك الحادثة من فتح أو غيره فذلك مسلم، وإن عني بذلك أنها تكون مكررة المعاني مطولة الألفاظ قصداً لإفهام العامة فهذا غير مسلم، وهو مما لا يذهب إليه من عنده أدنى معرفة بعلم الفصاحة والبلاغة، ويكفي في بطلانه كتاب الله تعالى، فإنه لم يجعل لخواص الناس فقط، وإنما جعل لعوامهم وخواصهم، وأكثره لا بل جميعه مفهوم الألفاظ للعوام، إلا كلمات معدودة وهي التي تسمى غريب القرآن، وقد تقدم الكلام على ذلك في المقالة الأولى المختصة بالألفاظ، وعلى هذا فينبغي أن تكون الكتب جميعها مما يقرأ على عوام الناس وخواصهم ذات ألفاظ سهلة مفهومة، وكذلك الأشعار والخطب، ومن ذهب إلى غير ذلك فإنه بنجوة عن هذا الفن، وعلى هذا فإن الإطناب لا يختص به عوام الناس، وإنما هو للخواص كما هو للعوام، وسأبين حقيقته في كتابي هذا، وأحقق القول فيه بحيث تزول الشبهة التي خبط أرباب علم البيان من أجلها، وقالوا أقوالا لا تعرب عن فائدة.
والذي عندي فيه أنه إذا رجعنا إلى الأسماء واشتقاقها وجدنا هذا الاسم مناسبا لمسماه، وهو في أصل اللغة مأخوذ من أطنب في الشيء إذا بالغ فيه، ويقال: أطنبت الريح، إذا اشتدت في هبوبها، وأطنب السير، إذا اشتد فيه، وعلى هذا فإن حملناه على مقتضى مسماه كان معناه المبالغة في إيراد المعاني وهذا لا يختص بنوع واحد من أنواع علم البيان، وإنما يوجد في جميعها، إذ ما من نوع منها إلا ويمكن المبالغة فيه، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يفرد هذا النوع من بينها، ولا يتحقق إفراده إلا بذكر حده الدال على حقيقته.
والذي يحد به أن يقال: هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة، فهذا حده الذي يميزه عن التطويل، إذ التطويل هو: زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة وأما التكرير فإنه: دلالة على المعنى مرددا، كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع، فإن المعنى مردد واللفظ واحد، وسيرد بيان ذلك مفصلا في بابه بعد باب الإطناب بعضها بعضا، وإذا كان التكرير هو إيراد المعنى مرددا فمنه ما يأتي لفائدة ومنه ما يأتي لغير فائدة، فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب وهو أخص منه، فيقال حينئذ: إن كل تكرير يأتي لفائدة فهو إطناب وليس كل إطناب تكريرا يأتي لفائدة، وأما الذي يأتي من التكرير لغير فائدة فإنه جزء من التطويل، وهو أخص منه، فيقال حينئذ: إن كل تكرير يأتي لغير فائدة تطويل، وليس كل تطويل يأتي لغير فائدة.
وكنت قدمت القول في باب الإيجاز بأن الإيجاز هو: دلالة اللفظ على المعنى من غير زيادة عليه.
وإذا تقررت هذه الحدود الثلاثة المشار إليها فإن مثال الإيجاز والإطناب والتطويل مثال مقصد يسلك إليه في ثلاثة طرق، فالإيجاز هو أقرب الطلاب الثلاثة إليه، والإطناب والتطويل هما الطريقان المتساويان في البعد إليه، إلا أن طريق الإطناب تشتمل على منزه من المنازه لا يوجد في طريق التطويل وسيأتي بيان ذلك بضرب الأمثلة التي تسهل من معرفته.
والإطناب يوجد تارة في الجملة الواحدة من الكلام، ويوجد تارة في الجمل المتعددة، والذي يوجد في الجمل المتعددة أبلغ، لاتساع المجال في إيراده.
أقسام الاطناب:
وعلى هذا فإنه بجملته ينقسم قسمين:

.القسم الأول: الذي يوجد في الجملة الواحدة من الكلام:

وهو يرد حقيقة، ومجازا، أما الحقيقة فمثل قولهم: رأيته بعيني، وقبضته بيدي، ووطئته بقدمي، وذقته بفمي، وكل هذا يظن الظان أنه زيادة لا حاجة إليها، ويقول: إن الرؤية لا تكون إلا بالعين، والقبض لا يكون إلا باليد، والوطء لا يكون إلا بالقدم، والذوق لا يكون إلا بالفم، وليس الأمر كذلك، بل هذا يقال في كل شيء يعظم مناله، ويعز الوصول إليه، فيؤكد الأمر فيه على هذا الوجه دلالة على نيله والحصول عليه، كقول أبي عبادة البحتري:
تأمل من خلال السجف وانظر ** بعينك ما شربت ومن سقاني

تجد شمس الضحى تدنو بشمس ** إلي من الرحيق الخسرواني

ولما كان الحضور في هذا المجلس مما يعز وجوده، وكان الساقي فيه على هذه الصفة من الحسن، قال: انظر بعينك.
وعلى هذا ورد قوله تعالى: {ذلكم قولكم بأفواهكم} فإن هذا القول لما كان فيه افتراء عظم الله تعالى على قائله، ألا ترى إلى قوله تعالى في قصة الإفك: {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} فصرح في هذه الآية بما أشرت إليه من تعظيم الأمر المقول.
وفي مساق الآية المشار إليها جاء قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} ألا ترى أن مساق الكلام أن الإنسان يقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي، ويقول لمملوكه: يا بني، فضرب الله لذلك مثلا، فقال: كيف تكون الزوجة أما؟ وكيف يكون المملوك ابنا؟ والجمع بين الزوجة والأمومة وبين العبودية والبنوة في حالة واحدة كالجمع بين القلبين في الجوف، وهذا تعظيم لما قالوه، وإنكار له، ولما كان الكلام في حال الإنكار والتعظيم أتى بذكر الجوف، وإلا فقد علم أن القلب لا يكون إلا في الجوف، والتمثيل يصح بقوله: {ما جعل الله لرجل من قلبين} وهو تام، لكن في ذكر الجوف فائدة، وهي ما أشرت إليها وفيها أيضاً زيادة تصوير للمعنى المقصود، لأنه إذا سمعه المخاطب به صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين، فكان ذلك أسرع إلى إنكاره.
وعليه ورد قوله تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} فكما أن القلب لا يكون إلا في الجوف فكذلك السقف لا يكون إلا من فوق، وهذا مقام ترهيب وتخويف، كما أن ذاك مقام إنكار وتعظيم، ألا ترى إلى هذه الآية بكمالها وهي قوله تعالى: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} ولذكر لفظة: {فوقهم} فائدة لا توجد مع إسقاطها من هذا الكلام، وأنت تحس هذا من نفسك، فإنك إذا تلوت هذه الآية يخيل إليك أن سقفا خر على أولئك من فوقهم، وحصل في نفسك من الرعب ما لا يحصل مع إسقاط تلك اللفظة وفي القرآن الكريم من هذا النوع كثير، كقوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} وقوله: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} وكل هذه الآيات إنما أطنب فيها بالتأكيد لمعان اقتضتها، فإن النفخ في الصور الذي تقوم به الأموات من القبور مهول عظيم دل على القدرة الباهرة، وكذلك حمل الأرض والجبال، فلما كانا بهذه الصفة قيل فيهما: {نفخة واحدة} و{دكة واحدة} أي: أن هذا الأمر المهول العظيم سهل يسير على الله تعالى يفعل ويمضي الأمر فيه بنفخة واحدة ودكة واحدة، ولا يحتاج فيه إلى طول مدة ولا كلفة ولا مشقة، فجيء بذكر الواحدة لتأكيد الإعلام بأن ذلك هين سهل على عظمه.
وهذه المواضع وأمثالها ترد في القرآن الكريم ويتوهم بعض الناس أنها ترد لغير فائدة اقتضتها، وليس الأمر كذلك، فإن هذه الأسرار البلاغية لا يتنبه لها إلا العارفون بها وهكذا يرد ما يرد منها في كلام العرب.
وهاهنا نكتة لا بد من الإشارة إليها، وذاك أني نظرت في قوله تعالى: {نفخة واحدة} و{دكة واحدة} وفي قوله تعالى: {ومناة الثالثة الأخرى} فوجدت ذلك غير مقيس على ما تقدم، وسأبينه ببيان شاف، فأقول: إن قوله تعالى: {ومناة الثالثة الأخرى} إنما جيء به لتوازن الفقر التي نظمت السورة كلها عليها، وهي: {والنجم إذا هوى} ولو قيل: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة} ولم يقل الثالثة الأخرى لكان الكلام عاريا عن الطلاوة والحسن، وكذلك لو قيل: ومناة الأخرى، من غير أن يقال الثالثة لأنه نقص في الفقرة الثانية عن الأولى، وذاك قبيح وقد تقدم الكلام عليه في باب السجع، لكن التأكيد في هذه الآية جاء ضمنا لتوازن الفقر وتبعا، وأما: {نفخة واحدة} و{دكة واحدة} فإنما جيء بلفظ الواحدة فيهما وقد علم أن النفخة هي واحدة والدكة هي واحدة لمكان نظم الكلام، لأن السورة التي هي: {الحاقة} جارية على هذا المنهاج في توازنها السجعي، ولو قيل نفخة من غير واحدة ثم قيل بعدها: {فيومئذ وقعت الواقعة} لكان الكلام منثورا محتاجا إلى تمام، لكن التأكيد جاء فيهما ضمنا وتبعا، وإذا تبين ذلك واتضح فاعلم أن الفرق بين هذه الآيات وبين قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} ظاهر، وذاك أن نفخة هي واحدة ومناة هي ثالثة.
وأما ما جاء منه على سبيل المجاز فقوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار لكن تعمى القلوب التي في الصدور} ففائدة ذكر الصدور هاهنا أنه قد تعورف وعلم أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب تشبيه، ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المتعارف من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا الأمر إلى زيادة تصوير وتعريف، ليتقرر أن مكان العمي إنما هو القلوب لا الأبصار.
وهذا الموضع من علم البيان كثيرة محاسنه، وافرة لطائفه، والمجاز فيه أحسن من الحقيقة، لمكان زيادة التصوير في إثبات وصف الحقيقي للمجازي، ونفيه عن الحقيقي.

.القسم الثاني: المختص بالجمل:

فإنه يشتمل على ضروب أربعة:

.الضرب الأول منها:

أن يذكر الشيء فيؤتى فيه بمعاني متداخلة إلا أن كل معنى يختص بخصيصة ليست للآخر وذلك كقول أبي تمام:
قطعت إلى الزابيين هباته ** والتاث مأمول السحاب السبل

من منة مشهورة وصنيعة ** بكر وإحسان أغر محجل

فقوله: منة مشهورة وصنيعة بكر وإحسان أغر محجل تداخلت معانيه إذ المنة، والصنيعة والإحسان متقارب بعضه من بعض، وليس ذلك بتكرير، لأنه لو اقتصر على قوله منة وصنيعة وإحسان لجاز أن يكون تكريرا، ولكنه وصف كل واحدة من هذه الثلاث بصفة أخرجتها عن حكم التكرير، فقال: منة مشهورة فوصفها بالاشتهار لعظم شأنها، وصنيعة بكر فوصفها بالبكارة: أي أنها لم يؤت بمثلها من قبل، وإحسان أغر محجل فوصفه بالغرة والتحجيل: أي هو ذو محاسن متعددة، فلما وصف هذه المعاني المتداخلة التي تدل على شيء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابا، ولم يكن تكريرا.
ولم أجد في ضروب الإطناب أحسن من هذا الموضع، ولا ألطف وقد استعمله أبو تمام في شعره كثيرا، بخلاف غيره من الشعراء كقوله:
زكي سجاياه تضيف ضيوفه ** ويرجى مرجيه ويسأل سائله

فإن غرضه من هذا القول إنما هو ذكر الممدوح بالكرم وكثرة العطاء، إلا أنه وصفه بصفات متعددة، فجعل ضيوفه تضيف، وراجيه يرجى وسائله يسأل، وليس هذا تكريرا، لأنه يلزم من كون ضيوفه تضيف أن يكون راجيه مرجوا، ولا أن يكون سائله مسؤلا، لأن ضيفه يستصحب ضيفا طمعا في كلام مضيفه، وسائله يسأل: أي أنه يعطي السائل عطاء كثيراً يصير به معطيا، وراجيه يرجى: أي أنه إذا تعلق به رجاء راج فقد أيقن بالفلاح والنجاح فهو حقيق بأن يرجى لمكان رجائه إياه، وهذا أبلغ الأوصاف الثلاثة.

.الضرب الثاني: يسمى النفي والإثبات:

وهو أن يذكر الشيء على سبيل النفي ثم يذكر على سبيل الإثبات، أو بالعكس، ولا بد أن يكون في أحدهما زيادة في الآخر، وإلا كان تكريرا والغرض به تأكيد المعنى المقصود.
فمما جاء منه قوله تعالى: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} واعلم أن لهذا الضرب من الإطناب فائدة كبيرة، وهو من أوكد وجوهه، ألا ترى أنه قال: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} ثم قال: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} والمعنى في ذلك سواء، إلا أنه في الثانية قوله: {وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} ولولا هذه الزيادة لكان حكم هاتين الآيتين حكم التكرير، وهذا الموضع ينبغي أن يتأمل وينعم النظر فيه.
وعليه ورد قوله تعالى: {ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} فقوله: {يعلمون} بعد قوله: {لا يعلمون} من الباب الذي نحن بصدد ذكره، إلا ترى أنه نفى العلم عن الناس بما خفي عنهم من تحقيق وعده، ثم أثبت لهم العلم بظاهر الحياة الدنيا، فكأنهم علموا وما علموا، إذ العلم بظاهر الأمور ليس بعلم، وإنما العلم هو ما كان بالباطن من الأمور.

.الضرب الثالث: هو أن يذكر المعنى الواحد تاما لا يحتاج إلى زيادة:

ثم يضرب له مثال من التشبيه، كقول أبي عبادة البحتري:
ذات حسن لو استزادت من الحس ** ن إليه لما أصابت مزيدا

فهي كالشمس بهجة والقضيب ** اللدن قدا والريم طرفا وجيدا

ألا ترى أن الأول كاف في بلوغ الغاية في الحسن، لأنه لما قال: لو استزدت لما أصابت مزيدا دخل تحته كل شيء من الأشياء الحسنة، إلا أن للتشبيه مزية أخرى تفيد السامع تصويرا وتخييلا لا يحصل له من الأول، وهذا الضرب من أحسن ما يجيء في باب الإطناب.
وكذلك ورد قوله:
تردد في خلقي سودد ** سماحا مرجى وبأسا مهيبا

فكالسيف إن جئته صارخا ** وكالبحر إن جئته مستثيبا

فالبيت الثاني يدل على معنى الأول، لأن البحر والسيف للبأس المهيب، إلا أن في الثاني زيادة التشبيه التي تفيد تخيلا وتصويرا.

.الضرب الرابع: أن يستوفي معاني الغرض المقصود من كتاب أو خطبة أو قصيدة:

وهذا أصعب الضروب الأربعة طريقا، وأضيقها بابا، لأنه يتفرع إلى أساليب كثيرة من المعاني، وأرباب النظم والنثر يتفاوتون فيه، وليس الخاطر الذي يقذف بالدرر في مثله إلا معدوم الوجود، ومثاله ومثال الإيجاز مثال مجمل ومفصل، وقد تقدم القول بأن الإيجاز والإطناب والتطويل بمنزلة مقصد يسلك إليه ثلاثة طرق، وقد أوردت هاهنا أمثلة لهذه الأساليب الثلاثة، وجعلتها على هيئة المقصد الذي تسلك إليه الطرق الثلاثة.
فمن ذلك ما ذكرته في وصف بستان ذات فواكه متعددة، فإذا أريد وصفه على حكم الإيجاز قيل: فيه من كل فاكهة زوجان، وهذا كلام الله تعالى، وقد جمع جميع أنواع الفاكهة بأحسن لفظ وأخصره، وإذا أريد وصف ذلك البستان على حكم الإطناب قيل فيه ما أذكره، وهو فصل من كتاب أنشأته، وهو جنة علت أرضها أن تمسك ماء، وغنيت بينبوعها أن تستجدي سماء، وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة، وتربة منجبة وما كل تربة توصف بالنجابة، ففيها المشمش الذي يسبق غيره بقدومه، ويقذف أيدي الجانين بنجومه، فهو يسمو بطيب الفرع والنجار، ولو نظم في جيد الحسناء لاشتبه بقلادة من نضار، وله زمن الربيع الذي هو أعدل الأزمان، وقد شبه بسن الصبا في الأسنان، وفيها التفاح الذي رق جلده، وعظم قده، وتورد خده، وطابت أنفاسه فلا بان الوادي ولا ورنده، وإذا نظر إليه وجد منه حظ الشم والنظر، ونسبته من سرر الغزلان أولى من نسبته إلى منابت الشجر، وفيها العنب الذي هو أكرم الثمار طينة، وأكثرها ألوان زينة، وأول غرس اغترسه نوح عليه السلام عند خروجه من السفينة فقطفه يميل بكف قاطفه، ويغري بالوصف لسان واصفه، وفيها الرمان الذي هو طعام وشراب، وبه شبها نهود الكعاب، ومن فضله أنه لانوى له فيرمى نواه، ولا يخرج اللؤلؤ والمرجان من فاكهة سواه، وفيها التين الذي أقسم الله به تنويها بذكره، واستتر آدم عليه السلام بورقه إذ كشفت المعصية من ستره، وخص بطول الأعناق فما يرى بها من ميل فهو نشوة من سكره، وقد وصف بأنه راق طعما، ونعم جسما، وقيل هذا كنيف مليء شهدا ملئ علما، وفيها من ثمرات النخيل ما يزهى بلونه وشكله، ويشغل بلذة منظره عن لذة أكله، وهو الذي فضل ذوات الأفنان بعرجونه، ولا تماثل بينه وبين الحلواء هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه، وفيها غير ذلك من أشكال الفاكهة وأصنافها، وكلها معدود من أوساطها لا من أطرافها، ولقد دخلتها فاستهوتني حسدا، ولم أصاحبها على قوله لن تبيد هذه أبدا.
فهذا الوصف على هذه الصورة يسمى إطنابا لأنه لم يعر عن فائدة، وذاك الأول هو الإيجاز، لأنه اشتمل باختصاره على جميع أصناف الفاكهة.
وأما التطويل فهو أن تعد الأصناف المذكورة تعدادا من غير وصف لطيف، ولا نعت رائق فيقال: مشمش وتفاح وعنب ورمان ونخل وكذا وكذا.
وانظر أيها المتأمل إلى ما أشرت إليه من هذه الأقسام الثلاثة في الإيجاز والإطناب والتطويل، وقس عليها ما يأتي منها.
وسأزيد ذلك بياناً بمثال آخر، فأقول: قد ورد في باب الإيجاز كتاب كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون رحمه الله تعالى، يخبره بهزيمة عيسى بن ماهان وقتله إياه، وهو كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى بن ماهان بين يدي وخاتمه بين يدي، وعسكره مصرف تحت أمري، والسلام وهذا كتاب جامع للمعنى، شديد الاختصار.
وإذا كتب ما هو في معناه على وجه الإطناب قيل فيه ما أذكره، وهو ما أنشأته مثالا في هذا الموضع ليعلم به الفرق بين الإيجاز والإطناب، وهو: أصدر كتابه هذا وقد نصر بالفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وانقلب باليد الملأى والعين القريرة، وكان انتصاره بجد أمير المؤمنين لا بحد نصله، والجد أغنى من الجيش وإن كثرت أمداد خيله ورجله، وجيء برأس ماهان وهو على جسد غير جسده، وليس له قدم فيقال إنه يسعى بقدمه ولا يد فيقال إنه يبطش بيده، ولقد طال وطوله مؤذن بقصر شأنه، وحسدت الضباع الطير على مكانها منه وهو غير محسود على مكانه، وأحضر خاتمه وهو الخاتم الذي كان الأمر يجري على نقش أسطره، وكان يرجو أن يصدر كتاب الفتح بختمه فحال ورود المنية دون مصدره، وكذلك البغي مرتعه وبيل وصرعه جليل، وسيفه وإن مضى فإنه عند الضرب كليل، وقد نطق الفأل بأن الخاتم والرأس مشيران بالحصول على خاتم الملك ورأسه، وهذا الفتح أساس لما يستقبل بناؤه ولا يستقر البناء إلا على أساسه، والعساكر التي كانت على أمير المؤمنين حربا صارت له سلما، وأعطته البيعة علما بفضله وليس من تابع تقليدا كمن تابع علما، وهم الآن مصروفون تحت الأوامر، ممتحنون بكشف السرائر، مطيفون باللواء الذي خصه الله باستفتاح المقالد واسيطاء المنابر، وكما سرت خطوات القلم في أثناء هذا القرطاس، فكذلك سرت طلائع الرعب قبل الطلائع في قلوب الناس، وليس في البلاد ما يغلق بمشيئة الله بابا، ولا يحسر نقابا، وعلى الله إتمام النعم التي افتتحها، وإجابة أمير المؤمنين إلى مقترحاته التي اقترحها، والسلام وهذا الكتاب يشتمل على ما اشتمل عليه كتاب طاهر بن الحسين من المعنى، إلا أنه فصل ذلك الإجمال.
ولو كتبت على وجه التطويل الذي لا فائدة فيه لقيل: أصدر كتابه في يوم كذا من شهر كذا، والتقى عسكر أمير المؤمنين وعسكر عدوه الباغي، وتطاعن الفريقان، وتزاحف الجمعان، وحمي القتال، واشتد النزال، وترادفت الكتائب، وتلاحقت المقانب، وقتل عيسى بن ماهان واحتز رأسه وقطع، ونزع الخاتم من يده وخلع، وترك جسده طعاما للطيور والسباع، والذئاب والضباع، وانجلت الوقعة عن غلب أمير المؤمنين ونصره، وخذلان عدوه وقهره، والسلام.
فهذا الكتاب يشتمل على تطويل لا فائدة فيه، لأنه كرر فيه معاني يتم الغرض بدونها، وذكر ما لا حاجة إليه في الإعلام بالواقعة.
فانظر إلى هذه الكتب الثلاثة وتأملها كما تأملت الذي تقدمها.
وبعد ذلك إني أورد لك كتابا وتقليدا يوضحان لك فائدة الإطناب، أما الكتاب فإنه كتاب كتبته عن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى إلى ديوان الخلافة ببغداد يتضمن فتح بيت المقدس واستنقاذه من أيدي الكفار، وذلك في معارضة كتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني عنه، وكان الفتح في السابع والعشرين من شهر رجب من سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، خلد الله سلطان الديوان العزيز النبوي، وجعل أيام دولته أترابا، ومناقب مجدها هضابا وزادها على مرور الأيام شبابا، وأوسعها توشية وذهابا، إذا أوسع غيرها تلاشيا وذهابا، ومنحها في الدنيا والآخرة عطاء وفاقا لا عطاء حسابا، ومثل جدودها في عيون الأعداء شيئا عجابا، وأراهم منها وراءهم في اليقظة إرهابا وإرعابا، وفي المنام إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، لو جمعت العصور في صعيد واحد لكان هذا العصر عليها فاخرا، وفاز بسبق أوائلها وإن جاء آخرا، وليس ذلك الا لخطوته بالدولة الناصرية التي كسته حبرا وقلدته دررا، ودونت له من المحامد سيرا، وجعلت في كل ناحية من وجهه شمسا وقمرا، وقيض الله لها من الخادم وليا يوصل يومه في طاعتها بأمسه، ولا يرى إلا ومن نفسه في خدمتها رقيب على نفسه، وطالما سعى بين يديها بمساع نغص بأخبارها محافل القوم، ويقال له فيها: ما ضرك ما صنعت بعد اليوم، وقد سلفت منها آيات تتمايل في أشباهها وأضرابها، واستؤنف لها الآن واحدة تدعى بأم كتابها، وهي فتح البيت المقدس الذي تفتحت له أبواب السماء، وكثرت بأحاديث مجده كواكب ظلماء، واسترد حق الإسلام وطالما سعت الهمم في طلبه بالزاد والماء، ومن أحسن ما أتي به أنه آنس قبلته الثانية بقبلته الأولى، وأطال منه كل ما قصرته يد الكفر وكانت هي الطولى، وبه صح لهذا البيت معنى اسمه، وانتقل إلى الطهارة المنجدة والغائرة، وكان مركزا لدائرتها فغادره وهو طرف من أطراف الدائرة، ولما شارفه نظر منه إلى ظلة من الظلل، ورأى بلدا قد استقر على متن الجبل مثل انعطاف الحبوة على الظهر، والمسالك إليه مع ذلك ذات تعاريج ومعارج، وهي ضيقة مستوعرة يطلق عليها اسم الطرق ولا يطلق عليها اسم المناهج، فلما رآه قال: هذا أمنية لمن يرى، وعلم حينئذ أن كل الصيد في جوف الفرا، الا أن لسان حاله خاطبه وهو أفصح الخطاب، وقال: امدد يدك فليس دونها من حجاب، وكان قد برز من السلاح في لباس رائع من المنعة، وأخرج من السواد الأعظم ما خدع العيون والحرب خدعة، وما يمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، ولا يحمى بعوالي الأسوار بل بعوالي الصعاد وفي يوم كذا وكذا خيم المسلمون عقد داره، ونزلوا منه نزول الجار إلى جانب جاره، ثم ارتادوا موقفا للقتال وإن لم يكن هناك موقف يقرب مناله ولا يتسع محاله، واتفق الرأي على لسان المنجنيق في خطبة عقيلية أبلغ خطابا، وأدنى من المطلوب طلابا، وأنه إذا ضرب بعصاه الحجر انبجست عيون أهله دماء، كما انبجست عيون الحجر ماء، هذا والعزائم تنظر إلى هذا الرأي نظر المستجهل، وتصد عنه صدود المستعجل، وتقول: ما باردتياد السهل تملك الصعاب، ومن ابتنى السيف صرحا لم ينأ عنه بلوغ الأسباب، والحديد لا يفلح إلا بالحديد، والركن الشديد لا يصدم إلا بركن شديد، فعندها صمم الخادم أن يلقى البلد مواثبا لا مواربا، وأن يجعل للزحف جانبا وللمنجنيق جانبا، ونوى أن يبدي صفحة وجهه أمام الناس، وتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الاتقاء به إذا اشتد البأس، ولا شك أن قلوب الجيوش بمنزلة قلوبها، وأن النفاذ لأسنة الرماح لا لكعوبها، ولا يشتفي من الوغى إلا من كان طرفه أمام طرفه، ومن وقف خلف جنوده فقد جعل عزائمها من خلفه، ولما وقع الزحف صورع البلد صراعا، بعد أن قورع قراعا، ثم هز هزة طوته بيمنها ونشرته بشمالها، وأذاقته العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من نكالها، وبدون ذلك يكون عذرك أديمه، وعطف شكيمه، ولم يكن قتاله بالسهام التي غايتها أن تصف أجنحتها للمطار، وتنال بكلومها من فوق الأسوار، بل بالسيوف التي إذا جالدت بلدا أخذت بكظمه، وتوغلت في هجمه، وأغنت بسرعة خطواتها إليه عن المنجنيق وإبطاء هدمه، والسيف ليس بمرتو من النفس التي تظل طائشة عند لقائها، جائشة عند استيفائها، فالقلوب توصف بأنها تجيش إذا كانت أعدادا، والنفوس لا تجيش إلا إذا كانت ثمادا، وما يستوي وجوه الأقران في إقدامها وإحجامها، فمنها المظلم إذا رابها الروع بإشراقها، ومنها المشرق إذا شابها الروع بإظلامها، وكانت وجوه المؤمنين في هذا المقام أحظى بلباس الإشراق، وأتم أبدرا والبدور لا يكون تمامها في المحاق، فما منهم إلا من عرض نفسه ليوم العرض، ومشى إلى جنة عرضها السموات والأرض، حتى اتسع المكر وضاق بأعداء الله المقر، وحرقت أوعار الخنادق، وصار الرجال لمنطقة السور كالمناطق، ولم يستشهد منهم إلا عدد يسير لا تدخله لام التعريف، وكانت أجنحة الملائكة مطيفة بهم فأكرم المطاف به وبالمطيف، وقد أسعد الله أولئك بالشهادة التي هي الفوز الأكبر، وقرنها بإدناء مضاجعهم من الأرض المقدسة، التي هي أرض المحشر، فما يسرهم أن يعودوا إلى الدنيا إلا للاستزادة من ثواب الجهاد، وأيسر ذلك أن أرواحهم في حواصل طير خضر تعلق من ثمار الجنة إلى يوم المعاد، ولما رأى الكفار أن صليبهم قد صار خوارا، وأن زئيرهم قد انقلب خوارا، أذعنت أيديهم باستسلامها، وصانعت بالمال عن الرقاب واسترقاقها، وبالبلد عن النفوس وحمامها، فأبى السيف أن يترك رقابا تغذي بأكلها، ويحل من عشقها على مداومة وصلها، وذكر الخادم أن سلف هؤلاء انتزاع هذا البلد قسرا، وفتك بمن كان به من المسلمين غدرا، وذلك ثأر ذخره الله لك حتى تحظى في الآخرة بثوابه، وتتجمل في الدنيا بزينة أثوابه، والمسلم أخو المسلم يأخذ بدمه، وإن تطاولت أمداد السنين على قدمه، فيا بعد عهد هذا الثأر من ثائره، ويا طيب خبره عند سامعه وحسن أثره عند ناظره، ولما تحقق العزم على ذلك أشار ذوو الرأي بقبول الفدية المبذولة، وألا يحمل العدو على ما ليست نفسه عليه بمحمولة، فإن النقد إذا أخرج صار ذا أنياب وأظفار، واستضرى حتى يلتحق بالسباع الضوار، وهؤلاء إذا رأوا عين القتل تجردوا للقتال، وركبوا الأهوال للنجاة من الأهوال، ومن يدع إلى خطة رشد فليقبلها، ومن أنشط له عقل الأمور فلا يعقلها، وعلى كل حال فإن الفدية للمسلمين أرغب، وأموال يتقوى بها على العدو خير من دماء تذهب، هذا، وبالبلد من أسارى المسلمين من حياة أحدهم بحياة كل نفس، ومن حرمته عند الله مما طلعت عليه الشمس، ولا يوازى فتحه عنوة أن يتعدى إليهم أضراره، ولا شك أنهم يعاجلون بالقتل قبل أن تدخل أقطاره، فرأى الخادم عند ذلك أن الرأي مشترك، وأن له معتركا كما أن السيف له معترك، وتقرر تسليم البلد ودموع أهله قد خضبت أحداقها وأقرحت آماقها ولم تطب أنفسهم بفراق قمامه حتى كادت الهام تفارق أعناقها، فعلى حب ذلك التراب تقوم قيامتهم، وتشيل نعامتهم، ولطالما ابتهلوا عنده أيام الحصار، واستنصروه فلم يحظوا منه بمعونة الانتصار، وكيف يرجى النصر من معبود تقر شيعته بقتله، أم كيف يدفع عن غيره من كان هو مبتلى بمثله، وهذه عقول سخيفة نفذ فيها كيد شيطانها، وأخفى عنها محجة الحق على وضوح بيانها، ولقد كان يوم التسليم عريض الفخار، زائد العمر على عمر أبويه من الليل والنهار، واشتق من اسمه معنى السلامة للمسلمين والهلاك للكفار، وزاده فخرا إلى فخره أنه وافق اليوم المسفر عن ليلة المعراج النبوي الذي كان في تلك الأرض موعده ومن صخرتها مصعده، وذلك هو الإسراء الذي ركب إليه ظهر البراق، واستفتح له أبواب السبع الطباق، ولقي فيه الأنبياء على اختلاف درجاتهم فظفر خير ملقى بخير لاق، وبركة ذلك اليوم سرت إلى هذا فأطالت من شهرته، وضمنته نصرة الدين الحنيف الذي لله عناية بنصرته، وجعلته يؤرخ بفتحه كما أرخ النبي صلى الله عليه وسلم بدار هجرته، وإذا أنصف واصفه قال: إنه لليوم البدري في اقتراب النسب وإنه العجيبة التي لم تجفل عنها الأيام في صفر وإنما أجفلت عنها في رجب، فما أكثر الفائز فيه والمغبون، والمسرور والمحزون فيمن جد راكب ومن جد راجل، ومن عز قادم وذل راحل، ولطالما جد الخادم في السعي له وأبصار العدا تزلقه، وألسنتهم تسلقه، وما منهم إلا من أكثر الشناعة بأن ذلك السعي للاستكثار من البلاد، والله يعلم أنه لم يكن إلا للاستكثار من موارد الجهاد، لا جرم أن صدق النية كان له عقبى الدار، وتلك الأقوال الكاذبة كان لها عقبى البوار، ويوم هذا الفتح يفتقر قبله إلى أيام تجلو بياضه عن سوادها، ويلقح لها بطون المساعي حتى يكون هي نتيجة ميلادها، ولما ظفر به الخادم لم يكن لأهل النجامية فيه قول يرد كذابه، ولا يقبل صوابه والشهب الطالعة على ذوات السروج، أصدق نبأ من الشهب الطالعة من ذوات البروج، على أنهما وإن اتفقا رجما فإنهما يختلفان علما، فعلم هذه يسأل عنه ثغر الأعناق، وعلم هذه يسأل عنه بطون الأوراق، ولما دخل البلد وجد به أمما لولا أن ضربت عليهم الذلة لدافعوا المنايا مكاثرة، وغالبوا السيوف مصابرة، وهم طوائف مختلفو الألسنة والألوان، وإن قيل إنهم أناسي فإن صورهم صور الجان، ومنهم طائفة استشعرت حبس نفوسها، وفحصت الشعر عن أوساط رءوسها، وتوحشت بالرهبانية حتى ارتاعت العيون من أشكالها ولبوسها، ولما رأوا طليعة الإسلام داخلة عليهم أعلنوا بالجؤار واصطرخوا جميعاً كما يصطرخون غدا في النار، وزادهم غيظا إلى غيظهم أنهم رأوا الصلاة قائمة وقد صار الناقوس أذانا، وكلمة الكفر إيمانا، وأقيمت الجمعة، وهي أول جمعة حظي الأقصى بمشهدها، وحضرتها الأمة الإسلامية بأحمرها وأسودها، فمن باك بدمعة سروره الباردة، ومن مجيل نظره في نعمة الله الواردة، ومن شاكر للزمن الذي أبقاه إلى هذا اليوم الذي كل الأيام له حاسدة من كان ولده تقدم قبله أو بعده فكأنه لم يولد، وكانت هذه الجمعة في رابع شعبان، وهو الشهر الذي جعله الله طليعة لشهر الصيام، وليلة نصفه هي الليلة المعروفة بإحياء قيامها إلى حين وفاه شخص الظلام، والتي يغفر فيها لأكثر من شعر غنم كلب من ذوي الذنوب والآثام، وجيء باللواء الأسود فركز من المنبر في أعلاه، ونطق لسان حاله فقال: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه فأنا مولاه، ولم يكن لسان الخطيب بأفصح بياناً من لسانه، غير أن هذا يزهى ببلاغ موعظته وهذا يزهى بعزة سلطانه، ولما ذكرت سمات الخلافة المعظمة أتبعها الناس بالدعاء الذي ملأ المسجد بعجيجه، وسبق الكرام الكاتبون بزميله إلى السماء ووشيجه، وكان اليوم فصلا والموقف حفلا، وذلك الدعاء فرضا لا نفلا، ولا ينتهي النصف إلى ما شوهد بالبلد من الآثار العجيبة التي تستلبث العجلان وتستحلب الأذهان وتستنطق الألسنة بالتسبيح لله الذي فطر الإنسان، ومن جملة ذلك ما تبوهي في حسنه من البيع والصوامع، ذوات الأبنية الروائع، التي روضت بالزخارف ترويض الأزهار، ورفعت معاقدها حتى كادت النجوم توحي إليها بالأسرار، وما منها إلا ما يقال: إنه إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، ولقد ألان الله لهم الحجارة حتى تخيروا في توسيعها بضروب الاختيار، وجعلوها أعاجيب للأسماع والأبصار، وقيل فيها: هذه روضات جنان لا أفنية ديار، هذا إلى غيره مما وجد من معبودات القوم الموصوفة بأنها آلة الصلب، اللاتي من ذوات النصب، وأكثر ذلك وجد في المسجد موضوعا، وعلى قبته مرفوعا، فأنزلت على قرونها واستن بسنة رسول الله صلى اله عليه وسلم في طعن عيونها، واستوطن المؤمن مكان الكفور، وبدلت الظلمات بالنور، وقالت الصخرة: الآن جمع بيني وبين الحجر الأسود لخاطب الإسلام، والجمع بين الأختين في هذا الأمر من الحلال لا من الحرام، وقال الأقصى: سبحان الذي أسرى إلي بجنده، كما أسرى بعبده، وأعاد لي عهود الفتح الأول بهذا الفتح الذي أتى من بعده، وعود الذاهب أرجى لدوام أحقابه، وخلود الإنسان لا يكون إلا في مآبه، وهذا هو الخطب الذي جدد للإسلام عهود ابن خطابه، رضي الله عنه، إلا أن مستنقذ الطريدة أولى بها من صاحبها، ولئن غصبتها يد غالبة فقد جاء الله باليد التي غصبتها من غاصبها، هذا ولم يستنقذها الخادم إلا بإنضاء سلاح أنفته الوقعة الأولى التي استأصلت حماة البلاد، واسباحت أغيالها بقتل الآساد، فكانت لهذا الفتح عنوانا، ولتقرير أصوله بنيانا، ولم ينج بها من طواغيت الكفر إلا طاغية ترابلس، فإن السيوف أسأرته وبفؤاده قلق من أوجالها، وفي عينه دهش من أهوالها، وقد قرن الله هذا الفتح ببشرى موته، وكفى المسلمين مؤنة الاهتمام لفوته، ففر من الوقعة ولم ينج بذلك الفرار، واعتصم بذات جداره، فقتله الخوف من وراء الجدار، ولا فرق بين قتيل خوف السفار، وبين قتيل الشفار، ولقد فر من المكروه إلى مثله، لكنه انتقل من ميتة عزه إلى ميتة ذله، وكذلك آثار الخادم في أعداء الله فهم هلكى بسيفه في مواقف الطراد، فإن فروا فبخوفه على جنوب الوساد، وبعد هذه فهل يمترون في أن دمائهم قد استجابت لمراده، وأن سواء لديه من أمكن منها في دنوه ومن امتنع منها في بعاده، وكل ذلك مستمد من الاستنصار بعناية الديوان العزيز التي من شأنها أن تجعل الرؤيا حقا، وأحاديث الأمال صدقا، وتقرب بعيدات الأمور حتى تجعل الشرق غربا والغرب شرقا، فهذا الفتح منسوب إليها، وإن كان الخادم هو الساعي في تسهيله، والمجاهد بنفسه وماله في سبيله، فعلى عطف دولتها ترقم أعلامه، وفي أيامها تؤرخ أيامه، ولو أبيح للقم الخيلاء في مقام المقال، كما أبيح لصاحبه في مقام القتال، لاختالت مشيته في هذا الكتاب، ولقال وأسهب فليس الإكثار هاهنا من الإسهاب، لكنه منعه من ذلك أن يكون ممن فخر بعمله فأبطله، وأرسل خطابه إلى الديوان العزيز فلم يقبضه بالأدب حين أرسله، وقد ارتاد من يبلغ عنه مشاريح هذه الوقائع التي اختصرها، ويمثل صورها لمن غاب عنها كما تمثلت لمن حضرها، ويكون مكانه من النباهة كريما كمكانها، وهي عرائس المساعي فأحسن الناس بياناً مؤهل لإيداع حسانها، والسائر بها فلان وهو راوي أخبار نصرها التي صحبها في تجريح الرجال وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال، والأيام والليالي رواة فما الظن برواية الأيام والليال، وستتلو هذه الأخبار الصادقة بمشيئة الله أخبار مثلها صادقة، وما دامت السيوف ناطقة في يد الخادم فالألسنة عنها ناطقة، وللآراء العالية مزيد العلو، إن شاء الله تعالى. تنصار بعناية الديوان العزيز التي من شأنها أن تجعل الرؤيا حقا، وأحاديث الأمال صدقا، وتقرب بعيدات الأمور حتى تجعل الشرق غربا والغرب شرقا، فهذا الفتح منسوب إليها، وإن كان الخادم هو الساعي في تسهيله، والمجاهد بنفسه وماله في سبيله، فعلى عطف دولتها ترقم أعلامه، وفي أيامها تؤرخ أيامه، ولو أبيح للقم الخيلاء في مقام المقال، كما أبيح لصاحبه في مقام القتال، لاختالت مشيته في هذا الكتاب، ولقال وأسهب فليس الإكثار هاهنا من الإسهاب، لكنه منعه من ذلك أن يكون ممن فخر بعمله فأبطله، وأرسل خطابه إلى الديوان العزيز فلم يقبضه بالأدب حين أرسله، وقد ارتاد من يبلغ عنه مشاريح هذه الوقائع التي اختصرها، ويمثل صورها لمن غاب عنها كما تمثلت لمن حضرها، ويكون مكانه من النباهة كريما كمكانها، وهي عرائس المساعي فأحسن الناس بياناً مؤهل لإيداع حسانها، والسائر بها فلان وهو راوي أخبار نصرها التي صحبها في تجريح الرجال وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال، والأيام والليالي رواة فما الظن برواية الأيام والليال، وستتلو هذه الأخبار الصادقة بمشيئة الله أخبار مثلها صادقة، وما دامت السيوف ناطقة في يد الخادم فالألسنة عنها ناطقة، وللآراء العالية مزيد العلو، إن شاء الله تعالى.
وأما التقليد فإنه تقليد أنشأته لمنصب الحسبة، وهو أما بعد، فقد جعل الله جزاء التمكين في أرضه أن يقام بحدود فرضه، ونحن نسأله التوفيق لهذا الأمر الذي ثقل حمله وعدم أهله، فقد جيء بنا في زمن أصبح الناس فيه سدى، وعاد الإسلام فيه غريبا كما بدا، وهو الزمن الذي كثرت فيه أشراط اليوم الأخير، وغربلت فيه الأمة حتى لم يبق إلا حثالة التمر والشعير، ومن أعم ما نقرر بناءه ونقدم عناءه، ونصلح به الزمن وأبناءه، أن نمضي أحكام الشريعة المطهرة على ما قررته، في تعريف ما عرفته وتنكير ما نكرته، ومدار ذلك على النظر في أمر الحسبة التي تتنزل منه بمنزلة السلك من العقد، والكف من الزند، وقد أخلصنا النية في ارتياد من يقوم فيها ويكفيها، ويصطفى لها ولا يصطفيها، وهو أنت أيها الشيخ الأجل فلان أحسن الله لك الأثر، وصدق فيك النظر، فتولها غير موكول إليها، بل معانا عليها. واعلم أن الناس قد أماتوا سننا وأحيوا بدعا، وتفرقوا فيما أحدثوه من المحدثات شيعا، وأظلم منهم من أقرهم على أمرهم، ولم يأخذ بقوارع زجرهم، فإن السكوت عن البدعة رضا بمكانها، وترك النهي عنها كالأمر بإتيانها، ولم يأت بنا الله تعالى إلا ليعيد الدين قائما على أصوله، صادعا بحكم الله فيه وحكم رسوله.
ونحن نأمرك أن تتصفح أحوال الناس في أمر دينهم الذي هو عصمة مالهم، وأمر معاشهم الذي يتميز به حرامهم عن حلالهم، فابدأ أولاً بالنظر في العقائد واهد فيها إلى سبيل الفرقة الناجية الذي هو سبيل واحد، وتلك الفرقة هي السلف الصالح الذين لزموا مواطن الحق فأقاموا، وقالوا ربنا الله ثم استقاموا، ومن عداهم شعب دانوا أديانا، وعبدوا من الأهواء أوثانا، واتبعوا ما لم ينزل به الله سلطانا، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم، فمن انتهى من هؤلاء إلى فلسفة فاقتله ولا تسمع له قولا، ولا تقبل منه صرفا ولا عدلا، وليكن قتله على رءوس الأشهاد ما بين حاضر وباد، فما تكدرت الشرائع بمثل مقالته، ولا تدنست علومها بمثل أثر جهالته، والمنتمي إليها يعرف بنكره، ويستدل عليه بظلمة كفره، وتلك الظلمة تدرك بالقلوب لا بالأبصار، وتظهر زيادتها ونقصها بحسب ما عند رائيها من الأنوار، وما تجده من كتبها التي هي سموم ناقعة، لا علوم نافعة وأفاعي ملففة، لا أقوال مؤلفة، فاستأصل شرفتها بالتمزيق، وافعل بها ما يفعله الله بأهلها من التحريق، ولا يقنعك ذلك حتى تجتهد في تتبع آثارها، والكشف عن مكامن أسرارها، فمن وجدت في بيته فليؤخذ جهارا، ولينكل به إشهارا، وليقل: هذا جزاء من استكبر استكبارا، ولم يرج لله وقارا، وأما من تحدث في القدر، وقال فيه بمخالفة نص الخبر، فليس من ربقة الإسلام، وإن تنسك بمداومة الصلاة والصيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القدرية مجوس هذه الأمة» والمراد بذلك أنهما ماثلوا بين الله والعبد والضياء والظلمة، فعلاج هذه الطائفة أن تجزى بأن تخزى فليقابل جمعها بالتكسير، واسمها بالتصغير، ولتنقل إلى ثقل الحدود عن خفة التعزير، ومن كان منها ذا مكانة نابهة فليهبط، أو شهادة عادلة فليسقط، وكذلك يجري الحكم فيمن قال بالتشبيه والتجسيم، أو قال بحدوث القرآن القديم.
ومن ملحدي القرآن فرقة فرقت بين المعنى والخط، وفرقة قالت فيه بالشكل والنقط، وكل هؤلاء قوم خبثت سرائرهم، وعميت أبصارهم، وعظمت عند الله جرائمهم، فخذهم بالتوبة التي تطهر أهلها، وتجب ما قبلها، وليست التوبة عبارة عن ذكرى اللسان، والقلب لاه في قبضة النسيان، بل هي عبارة عن الندم على ما فات، واستئناف الإخلاص فيما هو آت، وقد جعل الله التائب من أحبابه، ووصفه في مواضع كثيرة من كتابه، ومن فضله أن الملائكة يستغفرون لذنبه، ويشفعون له إلى ربه، فإن أبت هذه الطوائف إلا إصرارا، ولم يزدهم دعاؤك إلا فرارا فاعلم أن الله قد طبع على قلوبهم طبعا، وألحقهم بالذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكره وكانوا لا يستطيعون سمعا، فخذهم عند ذلك بحد الجلد، فإن لم ينجع فبحد ذوات الحد، فإن هذه أمراض عمى لا ترجى لها الإفاقة، ولا تبريء منها إلا الدماء المراقة.
وأما الفرقة المدعوة بالرافضة، التي هي لما رفعه الله خافضة، فإنهم أناس ليس لهم من الدين إلا اسمه، ولا من الإسلام إلا رسمه، وإذا نقب عن مذهبهم وجد على العصبية موضوعا، ولغير ما شرعه الله ورسوله مشروعا، ذبُّوا عن علي رضي الله عنه فأسلموه، وأخروه إذ قدموه، وهؤلاء وضعوا أحاديث فنقلوها، وأولوا على أولوها، فتبع الآخر منهم الأول على غمة، وقالوا: إنا وجدنا آبائنا على أمة، وهاهنا غير ما ذكرناه من عقائد محلولة، ومذاهب غير منقولة ولا مقبولة، وبالهدي يتبين طريق الضلال وبالصحة يظهر أثر الاعتلال ولا عقيدة إلا عقيدة السنة والكتاب، ولا دين إلا دين العجائز الماء والمحراب.
وإذا فرغنا من الوصية بالأصول التي هي للدين ملاك، فلنتبعها بالفروع التي هي له مساك، وأول ذلك الصلاة، وهي في مباني الإسلام الخمس أوكد خمسه، وآخر ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مفارقة نفسه، ومن فضلها أنها العمل الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، ولا عذر في تركها لأحد من الناس فيقال إنه يعذر، فاجمع الناس إليها، واحملهم عليها، ومرهم بالاجتماع لها في المساجد، وناد فيهم بفضيلة صلاة الجماعة على صلاة واحد، وراقبهم عند أوقات الأذان في الأسواق التي هي معركة الشيطان، فمن شغل بتثمير مكسبه، ولها عنها بالإقبال على لهوه ولعبه، فخذه بالآلة العمرية التي تضع من قدره، وتذيقه وبال أمره، ولا يمنعك عن ذي هيبة هيبته، ولا عن ذي شيبة شيبته، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ومن مهمات الصلاة يوم الجمعة الذي هو في الأيام بمنزلة الأعياد في الأعوام، وفيه الساعة المخصوصة بالدعاء المجاب، التي ما صادفها عبد إلا ظفر بالطلاب، فمر الناس بابتداره في البواكر، والفوز فيه بقربان البدنات الأخاير، فإنه اليوم الذي تطلع الشمس على مثله، وبه فضل هذا الدين على أهل الكتاب من قبله، فهو واسطة عقد الأيام السبعة، ولاشتماله على مجموع فضلها سمي يوم الجمعة، وفي الأعوام مواسم لصلوات مخصوصة كالتراويح في شهر رمضان والرغائب في أول جمعة من رجب وليلة النصف من شعبان، فلتملأ المساجد في هذه المواسم التي تكثر فيها شهادات الأقلام، في كتب الطاعات ومحو الآثام، ومن حضرها وليس همه إلا أن يمر بها طروقا، ويواعد إليه أخدانه رفثا وفسوقا، فهؤلاء هم الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فابعث عليهم قوما يسلبونهم سلبا، ويوجعونهم ضربا، ويملئون عيونهم مهابة وقلوبهم رعبا، فبيوت الله مطهرة من هذه الأدناس، ولم تعمر لشياطين الإنس وإنما عمرت للناس، فلا يحضرها إلا راكع وساجد، أو ذاكر وحامد.
وهاهنا عظيمة عضيهة، وفاحشة يفقه لها من ليست نفسه بفقيهة، وهي الربا، فإنه قد كثر أكله، وتظاهر به فاعله، وقال فساق الفقهاء بتأويله، وتوصلوا إلى شبهة تحليله، ولا يتسارع إلى ذلك إلا من أعمى الله قلبه، ومحق كسبه، قال النبي: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجمدوها وباعوها وأكلوا أثمانها» ونحن نأمرك أن تشمر في هذا الأمر تشميرا يرهبه الناس، ولا تدع ربا حتى تضعه وأول ربا تضعه ربا العباس، فتأديب الكبير قاض بتهذيب الصغير، والأسوة بالرفيع خلاف الأسوة بالنظير، وجل معاملة الربا تجري في سوق الصرف الذي تختلف به النقود، وتفترض فيه العقود، ويخاض في نار نيره إلى النار ذات الوقود، وبه قوم أوسعوا عيون الموازين غمزا، وألسنتها همزا ولمزا، وأصبح الدرهم والدينار عندهم بمنزلة الصنمين اللات والعزى، ولا يرى منهم إلا من الحرص مفاض على ثيابه، وقد جمع بني المعرفة بالحرام والهجوم على ارتكابه، فعدل ميل هؤلاء تعديلا، وتخولهم على مرور الأيام تخويلا واعلم أنك قد وليت من الكيل والميزان أمرين هلكت فيهما الأمم السالفة فباشرهما بيدك مباشرة الاختيار والاختبار، ولا تقل أهلهما عثرة فإن الإقالة لا تنهى عن العثار، وكل هؤلاء من سواد الناس ممن لم يزك غرسه، ولا فقهت نفسه، وليس همه إلا فرجه وضرسه، فخذهم بآلة التعزيز التي هي نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، ومن آثارها أنها ترج أرض الرأس رجا، وتفرج سماءه فرجا، ويسلك بصاحبه هديا ونهجا.
وقد كثر في الأسواق الخلابة والنجس وتلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي وتنفيق السلعة باليمين الكاذبة وكل هذه من المحظورات التي وردت الأخبار النبوية ببيانها، والنهي عن تورد مكانها، فمن عرف ما اقترف فأذقه حر التأديب، قبل أن يذاق غدا حر التعذيب، وأعلمه أن الأرزاق بيد الله تعالى لا ينقصها عجز القاعد ولا يزيدها حرص الكادح، وقد ينقلب الجاهد فيها بصفقة الخاسر والوادع بصفقة الرابح، ومن سنة الله تعالى أن ينمي الحلال وإن كان يسيرا، ويمحق الحرام وإن كان كثيرا، ومن الناس من آتاه الله مالا فبث في الأسواق جنود ذهبه وورقه، واحتكر ما حمله الميزان من ذوات رطله ووسعه الكيل من ذوات وسقه، فأصبح فقراء بلده في ضيق من عدم الرفق، ومدد الرزق، فليمنع هؤلاء أن يجعلوا رزق الله محتكرا ومعاش عباده محتجرا، وليؤمروا بأن يتراحموا، ولا يتزاحموا، وأن يأخذ الغني منهم بقدر الكفاف، ويترك للفقير ما يعينه على الإسعاف، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من أرزاق الله تعالى ينزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله، وأما التعسير فإنه وإن آثره القاطنون، وحكم به القاسطون، وقيل: إن في ذلك للفقير تيسير العسير، فليس لأحد أن يكون يد الله في حفظ ما رفع، وبذل ما منع، فقف أنت حيث أوقفك حكم الحق، ودع ما يعن من مصلحة الخلق، ولا تكن ممن اتبع الرأي والنظر، وترك الآية والخبر، فحكمة الله مطوية فيما يأمر به على ألسنة رسله، وليست مما يستنبطه ذو العلم بعلمه ولا يستدل عليه ذو العقل بعقله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ومما نأمرك به أن تمحو الصغيرة، كما تمحو الكبيرة، فإن لمم الذنوب كالقطر يصير مجتمعه سيلا متدفقا، وكان أوله قطرا متفرقا.
وقد استمر في الناس عوائد تهاونوا باستمرارها، ولم ينظروا إلى ثقل أوزارها، فمن ذلك لبس الذهب والحرير الذي لم يلبسه إلا من عدم عند الله خلاقا، وإن قيل إنه شعار للغني فلم يزد صاحبه من الحسنات إلا إملاقا، وللبس عباءة مع التقوى أحسن في العيون شعارا، وأعظم في الصدور وقارا، ويلتحق بهذه المعصية صوغ الذهب والفضة آنية يمنع منها حق الصدقات وهو حق يقاتل مانعه، ويعصى في استعمالها أمر الله وهو حد من حدوده يعاقب عاصيه ويثاب طائعه، وكذلك يجري الحكم في الصور المرقومة في البيوت والثياب، وعلى الستور المغلقة على الأبواب، وإخراجها في ضروب أشكال الحيوان لملاعبة الصبيان، وذلك مماثلة لخلق الله في التقدير، ولهذا يؤمر صانعه بنفخ الروح فيما صوره من التصوير.
ومما يغلظ نكيره إطالة الذيول للاجترار، والمباهاة لما فيها من عنجهية التيه والاستكبار، ولن يخرق صاحبها الأرض بإعجابه، ولا يبلغ الجبال بإطالة ثيابه، قال النبي: «إن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء».
ومما هو أشد نكيرا أمر الحمامات، فإن الناس قد أصروا بها على الإجهار، وترك الاستتار، والتهاون بأمر العورات التي لصاحبها اللعنة وله سوء الدار، والنساء في هذا المقام أشد تهالكا من الرجال، وقد ابتذلن أنفسهن حتى أفرطن في فاحشة الابتذال، ولهن محدثات من المنكر أحدثها كثرة الإرفاه والإتراف، وأهمل إنكارها حتى سرت في الأوساط والأطراف، وقد أحدثن الآن من الملابس ما لا يخطر للشيطان في حساب، وتلك من لباس الشهرة الذي لا يستر منه إسبال مرط ولا إدناء جلباب، ومن جملتها أنهن يعتصبن عصائب كأمثال الأسنمة، ويخرجن من جهارة أشكالها في الصور المعلمة، وقد أخبر رسول الله بها فيما ورد عنه من الأخبار، وجعل صاحبها معدودا من زمرة أصحاب النار.
ومما حيد به عن السنن قرآة القرآن بضروب الألحان، وتلك قراءة تخرج حروفها من غير مخرج، وتبدو معوجة وهو قرآن عربي غير ذي عوج، وقد أمر الله بترتيله، وإيراده على هيئة تنزيله، فمن قرأه بالترجيع والترديد، وزلزل حروفه بالتمطيط والتمديد، فقد ألحقه بدرجات الأغاني، وذهب بما فيه من طلاوة الألفاظ والمعاني، قال النبي: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» ويلتحق بذلك اقتناء القينات المغنيات اللاتي يلعبن بالعقول لعبهن بالأسماع، ويغنين الشياطين بغنائهن عن بث الجنود والأشياع، وفتيا النفس الأمارة في ذلك أن تقول: هؤلاء إماء يحل نغمة سماعهن، كما يحل ما تحت قناعهن، وقد علم أن لكل شيء نماما، وقد ينقلب فيصير حراما، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، قال النبي: «لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشترهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام» وفي مثل هذا أنزلت: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} وكذلك يجري الحكم في المواشط اللاتي يجعلن الحسن موفورا، والقبح مستورا، ويخدعن الناظر حتى يجعلنه مسحورا، فهن يبدين صدقا من كذب، وجدا من لعب، وفعلهن من الغش الذي نهى رسول الله عنه، وقال: إنه ليس منه، وقد لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة والمستوشرة، ومن غش المنكرات أيضاً خضاب الشيب الذي يخالف فيه الظاهر الباطن، ويتخلق صاحبه بخلق الكاذب الخائن، وهب أنه أخفى لون شعره وهل يخفي أخلاق لباسه، وإذا استسن ملائم المرء فلا يغنيه سواد عارضه ولا سواد رأسه، وقد جعل الله الشيب من نعمه المبشرة بطول الأعمار، وسماه نورا للونه وهدايته ولا تستوي الظلمات والأنوار، قال النبي الشيب أن يشتغل بتغيير صيغة الكتاب، ويدأب في محو سواد العقاب ببياض الثواب، ففي بقية عمره مندوحة لادخار ما يحمد ذخره، وتبديل ما تقدم سطره.
ومما خولفت فيه السنة عقد مجالس التعازي لحضور الناس، وإظهار شعار الأسود والأزرق من اللباس، والتشبيه بالجاهلية في النوح والندب، ومجاوزة دمع العين وخشوع القلب إلى الإعلان بإسخاط الرب، وقد تواطأ النساء على ضرب الخيام على القبور، وجعل الأعياد مواسم لاجتماع الزائر والمزور، فصارت المآتم بينهم ولائم والمنادب عندهم مآدب، وربما نشأ من ذلك ما يغض طرفا، ويجدع أنفا، ويوجب حدا وقذفا.
وهكذا أهمل أمر الإسلام في تشبيه أهل الذمة بأهله، وما كانوا ليشابهوه في زي غرته ويخالفوه في سلوك سبله، ولا بد من الغيار بأن يشد النصراني عقدة زناره، ويصفر اليهودي على إزاره، وليمنعوا من الظاهر بطغيان النعمة وعلو الهمة، ويؤمروا بالوقوف عند ما حكم عليهم من الأحكام، وأخذوا فيه بالاختفاء والاكتتام، فخمورهم تستر، وشعائر دينهم لا تظهر، وموتاهم تقبر بالخمول قبل أن تقبر، فلا يوقد خلف ميتهم مصباح ولا يتبع بندب ولا صياح.
ومما عرف الناس منكره إثارة التحريش بين الحيوانات، وهي ذوات أكباد رطبة، وأخلاق صعبة وما منها إلا ما يحل أكله، ولا يحل قتله، كالكبش والحجلة والديك والسماني وما أشبهها، وقد أكثر الناس من اقتنائها، والمواظبة على إضرام شحنائها ولربما نشأ من ذلك فتنة تؤل إلى ضراب، وشق ثياب، وإحداث شجاج، وإثارة عجاج وتحزب إلى أحزاب كثيرة وأفواج.
ويتصل بهذه المنكرات المذكورة أشياء أخرى تجري مجراها في التقديم، وتتنزل منزلتها في التحريم، فاحكم فيها بحكمك، وامض في شبهاتها بدليل علمك، ونب عنا في التذكير والتحذير والتعريف والتنكير، حتى يتقود الأود، ويتضح الرشد ويمكث في الأرض ما ينفع ويذهب الزبد، وليكن عملك لله الذي يسمع ويرى، وله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
واعلم أن الأمر بالمعروف عبادة يتعدى نفع صاحبها إلى غيره، وتستضيف خير المأمور بها إلى خيره، وهي الجهاد الأكبر الذي تقاتل فيه عواصي النفوس، وتضرب به رءوس الشهوات التي هي أمنع من معاقد الرءوس، فقتيله يحيا بقتله، وجريحه يوسي بجراحة نصله، وبمثل هذا الجهاد تستنزل أمداد النعم مضعفة، كما تستنزل أمداد النصر مردفة، فأقدم عليه ذا عزم باتر، وطرف ساهر، وقدم ثابت صابر، حتى تظل لمعاقل الشيطان فاتحا، وتكون فيمن دعا إلى الله وعمل صالحا.
واعلم أنك في صبيحة كل يوم يبتدرك الملك والشيطان، وكل منهما يقول: يأيها الإنسان، فإن أجبت نداء الملك كتبك في زمرة من مهد لجنبه، وخاف مقام ربه، وعرج بك إلى الله طيبا نشره، مضاعفا أجره، وإن أجبت نداء الشيطان كتبك في زمرة من أغواه، وقرنك بمن أغفل الله قلبه واتبع هواه، ثم نزل به إلى الأرض خبيثا مخثبا، وأقبل به على إخوانه من الشياطين محدثا.
وهذا آخر ما عهدناه إليك من العهد الذي طوقت اليوم بكتابه، وستناقش غدا على حسابه، وكما جعلناه لك في الدنيا ذكرا، فاجعله لك في الآخرة ذخرا، إن شاء الله تعالى والسلام.
وهذا الذي ذكرته في هذين من الكتاب والتقليد يتضمن إطنابا مستوفى الأقسام، ولولا خوف الإطالة التي لا حاجة إليها لأوردت قصائد من الشعر أيضا، حتى لا يخلو الموضع من ضرب أمثلة من المنظوم والمنثور، لكن في الذي ذكرته كفاية لمن يحمله على أشباهه ونظائره.
فإن قيل: إن الإطناب في الكلام وضعتموه اسما على غير مسمى، فإن الكلام لا يخلو من حالتين: إما ألا يزيد لفظه على معناه، وهو التطويل وليس هاهنا قسم ثالث، فما الإطناب إذا؟ قلت في الجواب: اعلم أن الإيجاز هو ضد التطويل، كما أن السواد ضد البياض، غير أن بين الضدين مراتب ومنازل ليست أضدادا، فالإطناب لا إيجاز هو ولا تطويل، كما أن الحمرة أو الخضرة ليست بياضا ولا سوادا، وقد قدمنا القول أن الإطناب يأتي في الكلام مؤكدا كالذي يأتي بزيادة التصوير للمعنى المقصود إما حقيقة وإما مجازا، والتطويل ليس كذلك، فإنه التعبير عن المعنى بلفظ زائد عليه يفهم ذلك المعنى بدونه، فإذا حذفت تلك الزيادة بقي المعنى المعبر عنه على حاله لم يتغير منه شيء، وهذا بخلاف الإطناب فإنه إذا حذفت منه تلك الزيادة المؤكدة للمعنى تغير ذلك المعنى وزال ذلك التأكيد عنه، وذهبت فائدة التصوير والتخييل التي تفيد السامع ما لم يكن إلا بها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وهذا لا يسمى إيجازا، لأنه أتى فيه بزيادة لفظ، وهو ذكر الصدور، وقد علم أن القلوب لا تكون إلا في الصدور ولا يسمى تطويلا، لأن التطويل لا فائدة فيه أصلا، وهذا فيه فائدة، وهي ما أشرنا إليه، وكذلك باقي أقسام الإطناب التي نبهناه عليها، وهذا لا نزاع فيه.